شكرا استاذتي سحر،

***

http://www.kuwaitmag.com/index.jsp?i...pid=&version=7


ليس في الثقافة العربية قديما وحديثا ما يتنافى مع الموسوعية والتخصص الدقيق في فرع من فروع المعرفة الدينية أو الأدبية أو العلمية. لقد كان المثقف العربي القديم في الغالب موسوعيا يستوعب كل معارف عصره، وقد ظلت هذه السمة في الثقافة العربية سائدة وسائرة إلى بداية العصر الحديث وحتى اليوم وتتمثل في نماذج بارزة لا تتناقض مع دعاة التخصص، وهي تنفي تماما ما ذهب إليه العلامة الجليل الأستاذ عبدالله العلائلي من «أن مخ الرياضي كله أرقام ورأس اللغوي مليء بالحروف والكلمات» فقد أثبت الواقع أن المخ المليء بالأرقام مليء بالكلمات أيضا. وأن كثيرا من علماء الرياضيات أدباء، وكثيرا من الأطباء شعراء.

أسوق هذه الإشارات كمقدمة للحديث عن عالم ومفكر وأديب هو الأستاذ أحمد مستجير الذي رحل عن عالمنا المرئي منذ شهور قليلة مخلفا وراءه مكتبة علمية وأدبية، تشكل إضافات حقيقية للمكتبة العربية الفقيرة إلى الكتابات العلمية بخاصة تلك التي تجمع بين العمق والبساطة واللغة البديعة. وقد أسعدني الحظ بالتعرف على هذا العالم الأديب عندما حضر إلى صنعاء أستاذا زائرا لكلية الزراعة بجامعة صنعاء. وكانت هذه الكلية التي تم تأسيسها في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، قد تمكنت في وقت قصير من أن تنهض بطلابها وأن تستقبل عددا من الأساتذة المتخصصين وفي طليعتهم الدكتور أحمد مستجير الذي وجد فيه أساتذة كلية الزراعة عالما كبيرا في مجال الهندسة الوراثية وفي أحدث المعارف العلمية الخاصة بموضوع الجينات. كما وجد فيه أساتذة كلية الآداب أستاذا كبيرا في مجال تخصصهم.

وكانت لنا معه لقاءات يومية طوال إقامته في صنعاء تجلت خلالها اهتماماته العميقة باللغة العربية وبموسيقى الشعر العربي. وكان كتابه عن العروض مدارا لمناقشات طويلة وساخنة مع الدكتور كمال أبوديب صاحب كتاب «في البنية الإيقاعية للشعر العربي، نحو بديل جذري لعروض الخليل ومقدمة في علم الإيقاع المقارن» وهو من أهم الكتب التي درست موضوع العروض وحاولت التجديد في مفهوم الإيقاع.

كان جانب كبير من الحديث معه يدور حول قضايا الفكر والإبداع ثم عن (العروض) وهل الاهتمام به والبحث في تفاصيله الدقيقة شأن العلماء والرياضيين أم شأن الأدباء والمشتغلين بالشعر واللغة. وكان هناك ما يشبه الإجماع على أن العروض علم يندرج في اهتمامات الرياضيين أكثر من اندراجه في المجال الأدبي وما قام به الدكتور أحمد مستجير يدخل ضمن اختصاصه الرياضي، فالخليل بن أحمد لم يكن صاحب عقلية لغوية فحسب بل كان يتمتع بعقلية رياضية نادرة مكنته من وضع أساس علمي سليم لظاهرة الإيقاع واستنطاق موسيقى الشعر وإشباع نهم الباحثين إلى فهم أبعاد هذا العلم الوثيق الصلة بالشعر والشعراء.

أخيرا، لقد فقدت مصر والأمة العربية برحيل الدكتور مستجير عالما فذا ومترجما متمكنا ترك فراغا كبيرا ليس في مجاله العلمي فحسب، وإنما في مجالات أخرى ومنها الترجمة بلغة ناصعة غير معقدة ولا غامضة. وهذا النوع من الترجمة هو ما تفتقده المعرفة العربية الراهنة، إذ على الرغم من وجود المئات وربما الآلاف ممن يجيدون اللغات الأجنبية لكنهم لسوء الحظ لا يجيدون النقل منها إلى لغتهم الأم أو النقل من هذه الأخيرة إلى اللغات الأخرى لأن معرفتهم بها ناقصة. وسيطول انتظار الثقافة العربية قبل أن ينهض واحد أو أكثر من أبنائها بما كان ينهض به الدكتور مستجير.

وبالمناسبة فقد كان في آخر لقاء لنا يتحدث عن مشروع دراسة تطبيقية عروضية خاصة بالشعر العربي الجديد ردا على من يقول إن هذا الشعر يجافي موسيقى الشعر العربي القديم أو يتعارض مع دوائر الخليل بن أحمد. ولا أدري إن كان المشروع الموعود به قد أنجز أم أن ظروفا حالت دون إنجازه.

وإذا كان قد أنجزه فهل سيتاح للقارئ العربي رؤيته قريبا؟ سؤال موجه إلى عائلة العالم الفقيد وإلى أصدقائه.